فريق بحثي من جامعة نورث وسترن الأمريكية سأل سؤالًا بسيطًا: ما المشكلة في جائزة نوبل؟ إذ لاحظ أعضاء الفريق أن إنتاجية الفائزين تقل بعد الحصول على الجائزة عما كانت عليه قبلها، بل ربما تتوقف تمامًا؛ لهذا بدأ الفريق في إعداد دراسة للمقارنة بين إنتاجية العلماء قبل الجائزة وبعدها.
أكَّدت الدراسة أن عددًا - اختاره الفريق عشوائيًّا - من الفائزين يصبحون أقل تأثيرًا في مجال عملهم لعامين كحد أدنى، وأن ذلك النسق من تراجع مستواهم يعطي دفعة للآخرين العاملين في المجال نفسه - ذوي المستويات الأقل - لاقتناص تلك الفترة التي تلي الجائزة في تحقيق إنجاز في المجال نفسه. فمثلًا في مجال الطب وعلم وظائف الأعضاء والكيمياء، وجد الفريق البحثي أن الاستشهاد بالأبحاث التي ينتجها فائزو نوبل يقل بنسبة 11% في الأبحاث التي ينتجونها بعد فوزهم بالجائزة، مقارنة بقدر الرجوع لأبحاثهم التي أنتجوها سابقًا. أمَّا الفيزيائيون، فقد انخفضت الاستعانة بأبحاثهم التي أنتجوها بعد الجائزة بنسبة 18%. كما لفتت الدراسة إلى أنه بعد مرور أربع سنوات قد يبدأ الفائزون بالجائزة بالعودة لمستوياتهم السابقة.
في دراسة أخرى أجرتها جامعة ستانفورد في كاليفورنيا، وجامعة واترلو في كندا، أثبتت النتائج السابقة نفسها، ولضمان الحصول على نتائج موضوعية ثبَّت الباحثون ثلاثة معايير؛ أولها عدد الأوراق المنشورة، والثاني هو حداثة الأفكار، والثالث هو عدد الاقتباسات في المقالات الأخرى. ووجدت الدراسة أن الفائزين بنوبل يحققون درجات عالية في جميع المقاييس الثلاثة قبل فوزهم بالجائزة، لكن بعدها ينخفض مستواهم ليتساوى مع العلماء الذين يحصدون جوائز أقل شهرة في العالم.
ومن الموضوعية أن نشير إلى أن جائزة نوبل غالبًا ما تُعطى لعلماء كبار في السن، ويُتوقع أن تقل إنتاجيتهم بحكم السن، فربما يكون السن عاملًا من العوامل المؤدية لتلك الظاهرة.
ركزت الدراسات السابقة على الحقول العلمية باعتبار أن قياسها أمر ممكن، ويسهل إخضاعها للقواعد العلمية في الدراسة، لكن هناك مجالًا آخر من مجالات الجائزة يتجلى فيه ما بات يُعرف بـ«لعنة نوبل»، وهو مجال الأدب. تبدأ تلك اللعنة منذ اللحظات الأولى لتسليط الأضواء على الفائز، فيبدو الكُتَّاب تحت أضواء نوبل وما يصاحبها من شهرة بمثابة الفراشة التي تحرقها الأضواء؛ بعضهم يختار الاقتراب، والبعض الآخر يختار الابتعاد عن الأضواء.
فضَّل بوب ديلان، المغني وكاتب الأغاني والشاعر، الحائز على جائزة نوبل عام 2017؛ أن يستلم الجائزة في حفل مغلق مع أعضاء الأكاديمية في ستوكهولم، بدون حضور لأي من وسائل الإعلام. ديلان بتفضيله هذا كان يحاول أن يتجنَّب ما حدث مع الروائي جابريل جارسيا ماركيز، الذي فاز بنوبل عام 1982؛ إذ كان تسليط الأضواء على ماركيز بمثابة اللعنة على حياته الاجتماعية، فبدأ معجبوه يكثرون، ومريدو لقائه يتزايدون، فآثر الانعزال عن الجميع، وعدم التواصل إلا مع عدد قليل من أقربائه.
ربما تكون اللعنة قاسية كما صرَّح بذلك نجيب محفوظ في عيد ميلاده التسعين، فمحفوظ، الأديب العربي الوحيد الذي حصد الجائزة المرموقة، توقف عن الكتابة تمامًا بعد حصوله عليها، ولم يعاود الكتابة إلا بعد محاولة اغتياله والضرر الذي لحق أعصاب يده، فعاد للكتابة قليلة الكلمات ليُدرِّب يده عليها مرة أخرى.
وحينما أجاب على سؤال نبيل شرف الدين حول استفادته من جائزة نوبل ماديًّا ومعنويًّا، ردَّ محفوظ بكلمة واحدة: «لا»؛ حيث نفى الاستفادة المادية والمعنوية من الجائزة، ثم استطرد قائلًا إن الحقيقة أن لعنة نوبل قد حلَّت عليَّ. وقال إنه بعد الجائزة أجرى عملية جراحية كبيرة، وتعرض لحادث اعتداء. وأشار كذلك إلى فقده قدرته على الكتابة والاستماع والقراءة. وختم كلامه قائلًا إنها فترة كلها هبوط بعد الحصول على الجائزة.
يصف محفوظ بكلماته الخاصة لعنة نوبل، فقد انتشر مصطلح لعنة نوبل في الأوساط العالمية، ولم يعد تهكمًا على الجائزة، بل صار مصطلحًا له تعريفاته المختلفة. وفي أحد تعريفاته أنها لعنة تحكم على الكاتب إما بالصمت أو التفاهة لما تبقى من عمره. رغم أنها تمنح الكاتب شهرة لحظية، وربما لفترة طويلة نسبيًّا، لكنها لا تطول أكثر من اللازم. ففي الفترة الأولى بعد الجائزة تجد النقاد يحاولون التباري للحديث حول أعمال الفائز، وكأنهم كانوا يتوقعون بالفعل حصوله على الجائزة. كما تتسابق دور النشر للحصول على حقوق نشر الكاتب.
ورغم ما سبق، نجد أنه في بعض الحالات تكون نوبل بمثابة طوق النجاة من مشاكل مختلفة، مثلما حدث في حالة الروائي التركي أورهان باموق، الرجل كان على خلاف مع حكومته، لكن بفضل نوبل استطاع أن يحصل على بعض الحماية، فلم يسجل التاريخ حتى الآن حبس أحد الفائزين بجائزة نوبل.
كذلك تكون جائزة نوبل سببًا في أن تُطبع كتب الفائز بكثرة، مثلما حدث مع الروائي الأمريكي ويليام فوكنر الذي فاز بالجائزة عام 1949؛ حيث فاز بها ولم يكن أي من كتبه مطبوعًا داخل بلده، لكن بعد الجائزة طُبعت كتبه وتُرجمت، ووفرت له الجائزة أمانًا ماليًّا جعله يتفرغ للكتابة الروائية فحسب، بعيدًا عن كتابة السيناريوهات من أجل الربح المادي.
تلك النماذج المعدودة للذين أفادتهم الجائزة، تؤكد أنه غالبًا ما يختفي الفائزون بجائزة نوبل بعد لحظات الشهرة الأولى، مثلما حدث مع الروائي الفرنسي جان ماري جوستاف الفائز بالجائزة عام 2008. بعض الاختفاء قد يكون نهائيًّا، وهو ما جعل البعض يأخذ مفهوم لعنة نوبل لنقطة متطرفة، وهو الموت.
على سبيل المثال، حصل الشاعر الإيطالي جوزويه كاردوتشي على الجائزة عام 1906، لكنه تُوفي بعد أسابيع قليلة، ونُشر بعد وفاته عدد كبير من أعماله لم يكن الوقت قد أسعفه لنشرها. تلك الوفاة مع كل ذكرى لها تعيد للأذهان لعنة نوبل.
كذلك تعود اللعنة للواجهة كلما أشار التقويم إلى تاريخ 19 فبراير؛ لأن ذلك التاريخ قد شهد وفاة أربعة من الحاصلين على الجائزة؛ أولهم كان الأديب النرويجي كنوت همسون، الرجل الذي حصل على نوبل عام 1920، ورحل وحيدًا بعد سنوات من الجائزة، تاركًا إرثًا أدبيًا مرموقًا، أما الثاني فكان الأديب الفرنسي أندريه جيد، الذي حصل على الجائزة عام 1947، ثم توفي في 19 فبراير بعد أربع سنوات من الحصول على الجائزة. وثالثهم كان الطبيب الأمريكي أندريه كورنان، الحاصل على جائزة نوبل عام 1956، لكنه توفي في التاريخ نفسه بعد سنوات. والرابع كان ريناتو دولبيكو، أحد أبرز علماء الفيروسات، وحصد الجائزة عام 1975، لكنه توفي لاحقًا في التاريخ نفسه عام 2012.
تلك المقولات التي باتت تشبه نسيجًا من الأساطير حول الجائزة، لم تنجح في جعل أحد ممن أُعلن عن فوزهم بها يرفض تسلمها؛ لأنها في النهاية لا تعدو كونها مجرد أساطير حول الجائزة، وقد يكون الحاصل عليها مدركًا أن الجائزة جاءت تتويجًا لمشوار مُتعب وطويل يُلخِّص مُجمل حياته، فلا يتوقع من نفسه مزيدًا من الإنتاج بعدها، ويكون هو ذاته منتظرًا نهاية رحلته في كل الأحوال.